24 أكتوبر 2013

امرأة تستجدي الوقت


قصة رمزية عن العطاء او التضحية بالوقت:
كان يعقوب الرسول اسقفا لاورشليم. في احد الايام ترك كنيسة جبل الزيتون عائدا الى منزله. و فيما هو على المنحدر توقف قليلا يتطلع الى الوادي. كانت الشمس على وشك الشروق. انقشع الندى، و كان بالقرب منه بستان جثسيماني، و نهر قدرون يسمع خرير مياهه. و فيما هو مستغرقا في التأمل اقبلت اليه سيدة صغيرة. كانت غارقة في الحزن. كانت الدموع الحارة تنحدر على خديها. توسلت اليه ان يشفق عليها، فقد انطرح زوجها فريسة لحمّى ثقيلة، و الموت يدب نحوه سريعا. لم يستطع الاطباء شيئا. ثم ان فقرهما شديد. يا للحسرة! انه سيموت و هما يحبان بعضهما حبا شديدا!
و نظر اليها الرسول صامتا للحظات. شعرت هي بقوة نظرته فاضطربت، لانه مع شفقته الكاملة كانت في عينه رزانة رهيبة، تأثير مقدس للنفوس المولودة من الله. اخيرا قال لها:
"ايتها المرأة اتحبينه اكيدا؟
فاجابت المرأة نعم يا ابانا احبه من قلبي.
سألها الرسول: اتحبينه مثل نفسك؟
قاطع الشهيق صوتها و هي تجيب: ازيد بكثير.
حسنا يا ابنتي. توجد وسيلة تنجي بها حياة زوجك، ربما تبدو عسيرة و لكنها الطريق الوحيد! اذهبي من منزل لمنزل و اطلبي احسانا على اسمه.
و لكن يا ابانا كيف يمكن ان ينجيه الاحسان؟
ليس احسانا بالنقود ما ارجو ان تطلبيه احسانا بالوقت. كل الايام او اجزاء الايام التي يتبرع بها الصالحون احسانا لزوجك من اعمارهم ستضاف الى حياته"
و فكرت الزوجة في نفسها قائلة: على اي حال يميل الناس للاحسان و اغلب الناس يقدّرون النقود فبينما يتمسكون بالمال كاله فهم يصرفون هباءا اياما عديدة ثمينة دون و حينئذ شكرت الرسول و استجمعت شجاعتها و ذهبت الى حال سبيلها.
و سرعان ما رؤيت تتنقل في اورشليم تقص حكايتها من باب لباب بتوسل وديع و تحكي عن زوجها المريض و عن خادم الله الذي اشار عليها بجمع احسان الوقت من المتصدقين و كانت تصرخ "ارحموني و لا تجعلوني اسأل عبثا. اعطوني كل واحد منكم يوما و سيبارككم الله".
لكن ذهب تعبها دون جدوى. سخر البعض منها. و ارتاب البعض في سلامة عقلها، و دفعها البعض بغلظة لمجرد اقتراح شيئا من هذا، و رأى البعض انها تهذر لكنهم فضلوا الا يشاركوها المزاح. قليلون اقروا بصلاحية هذا العلاج لكنهم مع ذلك غير مستعدين ان يساهموا في حصولها عليه. قالوا ان حياتهم عزيزة لديهم و ان متاعبهم كثيرة في الحصول على رزق عائلاتهم فلا حق لهم ان يمنحوا جزءا من وقتهم الثمين. و من الغريب ان اولئك الذين يسرفون في تضييع الوقت هباءا كانوا الاشد تمسكا في الرفض و عدم منحها ولو ساعة واحدة. اخيرا انكسر قلب الزوجة الشابة و ما صادفها من الشتائم القاسية..
وصلت المرأة الى باب رجل غني صراف، و بعد ان عرف مسألتها تريث قليلا ليجد حلا. ربما كان رجلها غنيا و لا شك انه سيدفع كثيرا. سألها: كم سيدفع زوجك ليوم؟ و لشهر؟ و لسنة؟ لكن يا للحسرة، يجب ان تطلق المرأة آمالها، لان زوجها فقير جدا.
سارت في طريقها... فقابلت قائد مائة روماني. لم تتوقع انه الوثني سيعطف عليها هي اليهودية، و لكن تظهر على وجهه علامات الطيبة، فلتجرب.
و يظهر ان قائد المائة فهمها ازيد مما كانت تظن. قال بتردد و هو يعبث بشعر لحيته "اريد ان اساعدك يا ابنتي و لكن ها انت ترين انني لا اعرف ان كانت حياتي ملكا لي. ربما اموت غدا. أليس من الشر ان امنح ما ليس لي! ثم لا ادري ان كنت بذلك اسرق قيصر، لان حياتي مبيعة له. لذلك انا متأسف. متأسف جدا. هل تسمحين ان اعطيك بعض النقود؟"
فقالت بحزن "ولكني لست طالبة مالا!" ثم ذهبت في طريقها.
بعد ذلك صادفت تاجرا غنيا- صاحب دكان نجارة فيه مئات من الايدي العاملة. و كان الرجل واحدا من العشرة برص الذين طهّرهم السيد و لم يعودوا ليعطوا مجدا لله ماعدا واحد. لم يكن هو ذلك الواحد. و بالصدفة خاطبته المرأة البائسة بنفس الكلمات التي خاطبوا بها ابن الله "يا سيد ارحمني" و لكن الرجل لا يعرف الرحمة. التفت الى الشواغل العديدة في مصنعه و قال للمرأة "انظري كل هذا العمل، انني بالكاد اكفي ما هو مطلوب مني و ها انت ترغبين ان امنحك قليلا من الوقت الذي انا في شدة الاحتياج اليه. كلا. اطلبي هذا في مكان اخر"
و لكنها تضرعت اليه قائلة "يا سيد لاجل خاطر الربوني بن مريم اشفق عليّ و اشفق على زوجي!"
و لم يكن الرجل ينتظر ان تذكّره بماضيه على هذا النحو و لكنه وجد جوابا في الحال "يظهر انك تعرفين تاريخ حياتي، فان طلبك مجحف، بل مضاعف الاجحاف. الا ترين ان حياتي قصيرة عن غيري، لانها تحسب من اليوم الذي شفيت فيه من البرص؟ فليس من المعقول ان اقتطع من حياة هي قصيرة من الاصل. اذهبي يا امرأة ان وقتي لا يتسع ولا للكلام".
بعد ذلك ... دخلت الى قصر شديد الروعة، في حديقة القصر شجيرات ناضرة تغني حولها الطيور، و ورود عطرة تملأ الجو باجمل الشذى. ستائر الايوان من الارجوان المطرز بخيوط الذهب. اما ابوابه فيفتحها و يغلقها عبيد في ملابس فخمة و اخيرا وصلت الى صاحب هذا القصر و طلبت اليه لاجل زوجها لكنه اجابها بصوت متقطع "يا امرأة انني حقا لا تهمني الحياة الا قليلا. و اعتبرها على احسن وجه "رواية مضحكة" و لكن لماذا امنحك اياه. انني لا اجد لذلك سببا؟! حب الانسانية؟ ليس في العالم سوى "خذ و اعط" فما هو الذي ستعطينه. اغربي عني و دعيني وحدي"
و خرجت المرأة من منزل الثري السوري و هي تبكي بكاءا مرا.
غير انها كانت في رسالة مقدسة فلن تيأس، لا، ليس الان.
   هناك حاكم يعيش لشهواته و هو يدعو الاخرين لمشاركته، والعيش حسب فكره هو التنعم، و بغير الملذات الدنيا لا تساوي شيئا. في شبابه حفظ الوصايا و كان راغبا في ان يرث الحياة الابدية. كان هو الشاب الذي اجابه المسيح "هذه كلها حفظتها منذ حداثتي" و لكن من اسماه المعلم الصالح اخبره ان كان يريد ان يصير كاملا فليبع كل ماله و يوزعه على الفقراء فيكون له كنزا في السماء "وتعال اتبعني" و لم يكن هذا ما يتوقعه الشاب ذو الاموال الكثيرة.
كانت هذه نقطة التحول في حياته. منذ تلك اللحظة ابطل اعتقاده بأي ميراث بعد القبر، و انضم للصدوقيين الذين يقولون ليس قيامة للاموات و اصبح اشد انصارهم. وقفت المرأة الفتية تسأله و لكنه اجابها باحتقار:
"ايتها الحمقاء و الغبية! ليس لي سوى هذه الحياة فهل تتصورين انني انفق منها على اي عابر سبيل. ألا تعلمين انه لا يمكن تعويض و لا يوم واحد و لا بذهب اوفير. انك اخطأت يا جميلة بالمجئ اليّ. اذهبي الى الفريسيين"
و استمرت يومين كاملين تستجدي من باب لباب حتى انتهت من شوارع اورشليم. و كل ما استفادته كلمات غير شفوقة ان لم يكن اسوأ من ذلك. و في نهايتها استسلمت لليأس ووقعت على الارض قرب دمشق متعبة الى الموت، كسيرة من الحزن ارتمت هناك بشعور من البؤس المميت.
بغتة نضب معين دموعها و جف. و اضاءت ابتسامة كشعاع الشمس المشرقة وجهها الذي انهكه التعب و الالم، و قامت مسرعة الى المكان الذي عرفت انها تلقي الرسول فيه.
سألها بمحبة مترفقة "الى اين وصلت يا ابنتي؟"
"للاسف يا ابانا. وجدت الناس خلوا من الرحمة، و الدنيا شريرة و شهواتها تسيطر على النفوس"
"بالصواب قلت. لان الرحمة هي من الله وحده"
 "نعم يا ابانا. و اليه وحده سأتوجه. لم يعطني احد و لا يوما واحدا، مع ان زوجي يحتاج اياما عديدة ليبلغ الى الصحة الكاملة. بعد ان انهكني التعب شرفت على اليأس، و لكن فجأة تذكرت ان لي حياة، و اذ اعلم انني شابة و تنتظرني حياة طويلة، فيا رجل الله اخبرني الا استطيع ان اعطي من وقتي ما لم يقبل الرجال القساة ان يمنحوه؟ ان زوجي هو شريك حياتي، فهل تسمح ان اعطيه نصف ايام حياتي لنعيش سويا و نموت سويا، و الا فانني مستعدة ان امنحه كل ايام حياتي – بكل سرور ليعيش هو".
كانت تتوسل و الدموع تنهمر على وجهها الذي اضاءه الحب.
و مسح الرسول على رأسها بيد البركة و قال و هو في اشد التأثر "افرحي يا ابنتي فقد وجدت نعمة في عين الله. لقد منح الله زوجك عمرا و ستعيشان سويا"

الابن العائد


ماجد شاب حصل على الاعدادية بصعوبة و لما لم تقبله اي من المدارس الثانوية ادخله ابوه مدرسة خاصة بمصروفات بالفجالة..

منذ هذا الوقت و ماجد قد تعرف على اصدقاء السوء.. انتقل من السنة الاولى الى الثانية في سنتين و من الثانية الى الثالثة في ثلاث سنوات. بقى في الثالثة اربع سنوات دون ان يحصل على شئ. هو الان في الخامسة و العشرين من العمر. لا يتناول بالمنزل سوى فنجانين من القهوة في الصباح. غذاؤه في الخارج، عشاؤه في الخارج، يعود دائما بعد منتصف الليل..
***

ماجد و صديقه كمال يمشيان في منتصف الطريق و كأن الطريق قد لفظهما على التو، الي يراهما من الخلف يظنهما على حافة السُكر. جسمان قد تعودا التسكع، و المسافة التي تفصل بينهما و هما يتسكعان غير ثابتة. و بينما يضع احدهما كلتا يديه في جيب بنطلونه علّق الاخر ابهامه في عيون حزامه الامامية.

الساعة الان قد جاوزت الثانية صباحا، لا يوجد بالطريق احد سواهما.

موضوع حديثهما اثناء سيرهما هذه الليلة ذو شجون. الفكرة مغرية..

الفكرة تقول طالما انه قد فشل الاثنان في الوصول الى شئ بمصر فلماذا لا يرحلان الى بلد اخر.. اليونان مثلا، ايطاليا! لماذا لا يجربان حظهما في ميدان المال حيث لا طبيعة و لا كيمياء..
- ما رأيك؟
قالها كمال و هو يعطي ماجد طرف عينيه.
- فكرة عظيمة و لكن..
- ماذا؟ مصاريف السفر؟
- هذا هيّن. ان وافق والدي فليس ثمة مشكلة. المشكلة في ان لا يوافق..
- لا يوافق. انت احمق؟ كم عمرك؟ أانت عيّل؟.. حادثه في الموضوع. لا تتوقف عن الزن حتى تحصل على ما تريد. ان اصر على الرفض هدده بترك البيت وعدم العودة..
- انت شيطان.
- انا فقط اساعدك في حل مشكلتك.
***

قام ماجد من النوم، رغبته في النوم باقية، لا يستطيع احد ان يوقظه، لقد كفّوا عن ذلك منذ عهد بعيد بعد ان كانت كل محاولة يعقبها عراك، انه يستيقظ وحده بعد ان يكون النهار قد تقدم كثيرا. ثم بعد ان يقيم قامته الى نصفها يضيّع ثلث ساعة اخرى حتى يفيق الى نفسه، ثم يرفع الغطاء من على ساقيه في بطء و يقف، ليتجه في ثقل شديد ناحية المطبخ ليصنع قهوته بنفسه.
في هذا اليوم اتجه الى ابيه بعد ان رسم ابتسامة على وجهه و سأله:
أتشرب قهوة.. معي .. يا ابي؟
رد في بساطة:
- اشرب..
و صنع ماجد قهوة تكفيهما معا، و اتجه بالصينية الى حيث يجلس والده. و ملآ فنجان ابيه و فنجانه راح يرتشف قهوته في صمت، و هو لا يعرف كيف يبدأ. قال والده و كأنه قد نسى طباع ابنه:
- قهوة على الريق. افطر اولا. هذا ضار بصحتك.
ابتسم ماجد متماديا في لطفه، فكشف عن اسنان صفراء و كأنها لكهل:
- انا بخير يا ابي. لا تستطيع معدتي ان تتقبل شيئا عقب الاستيقاظ مباشرة. ليس قبل ساعتين.
- انت حر يا بُني. ليقويك الله..
ثم آثر الصمت. و صمته جعله يتأمل ابنه الذي يجلس امامه. يلبس جاكتة على اللحم. وجهه شاحب. و السهر قد اورم جفنيه، و رغم كونه في الخامسة و عشرين الا انه قد بدا لابيه و كأنه في الخامسة و الثلاثين و يزيد.. فتولاه الحزن. لكن ماذا يقول!

الا ان الصمت لم يطل. فبعد عدة رشفات من فنجان القهوة تشجع ماجد و ابتدأ يتكلم، فخانه صوته اولا. فداراه بنحنحة مفتعلة ثم قال: 



22 أكتوبر 2013

ملكوت الله أكبر منا نحن البشر


من المفيد أحيانا أن نتوقف لبرهة من الزمن ونلقي نظرة بعيدة المدى.
فالملكوت ليس أكبر من نطاق جهودنا فحسب بل حتى أكبر من نطاق رؤيتنا أيضا.
فلا ننجز في فترة حياتنا سوى نِزر يسير من المشروع العظيم الذي هو عمل الله.
لا شيء نصنعه كامل، أو بتعبير آخر؛ أن ملكوت الله هو أوسع من نطاق قدرتنا دائما.
فلا توجد جملة واحدة تقول كل ما يمكن أن يقال.
ولا صلاة واحدة تعبر بالكامل عن إيماننا.
ولا اعتراف واحد بالخطايا يأتي بالكمال، ولا زيارة رعوية واحدة تأتي بالالتئام الكامل للرعية.
ولا برنامج عمل واحد يتمم رسالة الكنيسة.
ولا مجموعة واحدة من الأهداف أو الغايات تشمل كل شيء.

فعملنا هو كالآتي:
نزرع البذور التي ستنمو يوم ما.
ونسقي البذور التي قد زرعها غيرنا قبلنا، عالمين أنها ستأتي بثمار مواعيد المستقبل.
ونضع الأساسات التي تحتاج إلى مزيد من الرعاية.
ونقدم الخميرة التي تؤثر أكثر بكثير من إمكانياتنا.
فلا نستطيع أن نفعل كل شيء، وهناك إحساس من التحرر في إدراك ذلك.
وهذا ما يُعيننا على تأدية شيء ما وعلى تأديته بطريقة حسنة للغاية.
ربما يكون عملا ناقصا ولكنه بداية وخطوة في الطريق وفرصة لنعمة الله لتدخل وتُكمّل الباقي.

ربما لن نرى النتائج النهائية أبدا
ولكن هذا هو الفرق بين أستاذ البناء والعامل.
فنحن عمالٌ ولسنا أساتذة بناء - خدامٌ للكلمة ولسنا المسيح.
نحن أنبياءٌ لمستقبلٍ ليس ملكاً لنا.
آمين

أوسكار روميرو Oscar Romero

هذا المقال مقتطف من كتاب "في انتظاره فعلٌ"

20 أكتوبر 2013

غضب المسيح

اولا: لماذا غضب المسيح؟
إنه من المهم جدًا أن ننتبه إلى الحافز أو الدافع إلى الغضب، لأن كثيرًا من غضبنا نحن مرجعه حب الذات والأنانية لأن شخصًا ما أساء إلينا. ولكن ربنا المبارك لم يغضب قط بسبب إساءة لحقت بشخصه. إنه – تبارك اسمه – في ناسوته الكامل، كان له ملء الشعور والإحساس المرهف عندما وقف أحباؤه وتلاميذه بعيدًا عنه، وعندما كان أعداؤه يطلبون حياته، ويلتمسون له الشر، وعندما كانوا ينصبون له الشراك، ويتكلمون بالكذب ضده اليوم كله. لكنه كان يقول: «أما أنا فَكَأصَمَّ لا أسمع. وكَأبْكَمَ لا يفتحُ فاهُ. وأكون مثل إنسان لا يَسمعُ، وليس في فَمِهِ حُجَّةُ» (مز 38 :13‚14)، وهو «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشْتِمُ عوضًا، وإذ تألمَّ لم يكن يُهدِّدُ بل كان يُسَلِّم لمن يَقْضي بعدلٍ» (1بط 2 :22)
لقد «ظُلِمَ أما هو فَتَذَلَّلَ ولم يفتح فاهُ. كشاةٍ تُساق إلى الذَّبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازِّيها فلم يفتح فاهُ» (اش 53 :7).
وتأملوا – أيها الأحباء – أمام رئيس الكهنة، وأمام بيلاطس، وأمام هيرودس، انظروا إليه مُكللاً بالشوك، ومضروبًا على الوجه، ومجلودًا ومُحتقرًا، وهو في كل ذلك لا يفقد هيبته وجلاله، ولا يتخلى عن هدوئه وصمته. لقد بقي ساكتًا في كل مشاهد الإهانة.
ونقرأ عن سكوته في الأناجيل سبع مرات (مت 26 :63 ؛ 27 :12‚14 ؛ مر 14 :61 ؛ 15: 5؛ لو 23 :9؛ يو 19 :9).
ولكننا نراه يغضب لأن الهيكل، الذي يقترب فيه الإنسان من الله، انتشر فيه الفساد وخُرِّبَ روحيًا وأدبيًا، وأصبح مجالاً لإشباع طمع وجشع القادة الدينيين واستغلالهم لشعب الله. ونراه يغضب لأن الباعة والتجار والصيارفة يدنسون كرامة بيت الله، وبيت الصلاة أصبح بيت تجارة (اش 56 :7 ؛ يو 2 :16)، ومجالاً للربح القبيح بل ومغارة لصوص (ار 7 :11 ؛ مت 21 :13).
لقد كان لربنا يسوع الغيرة المقدسة على بيت الله «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (مز 69 :9 ؛ يو 2 :17). لقد كانت غضبته موجَّهة ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه. وغيرته جعلته، ليس فقط يُطهِّر بيت الله، بل أن يمضي أيضًا إلى الصليب لكي يموت عليه، إذ قال بعد ذلك مباشرة: «ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ ... وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يو 2 :19-21).
ثم نراه يغضب لأن نفرًا من متعصبي اليهود، ذوي العقول الضيقة، يفرضون قواعد عقيمة لحفظ السبت تحول بينه وبين فعل الخير وشفاء شخص مريض متألم يده يابسة «فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى» (مر 3 :1-6). لقد كان غضبه مقدسًا ومقبولاً، والسبب واضح، لقد حزن على غلاظة قلوبهم، وغضب لأنهم في ناموسيتهم لم يكن لديهم الرحمة والشفقة على الفقراء والمتألمين. ومع عجزهم التام لأن يسددوا تلك الحاجة، قاوموا بمرارة ذلك الشخص الوحيد الذي عنده القدرة والمحبة لأن يبارك ولأن يسدد كل احتياج.
إن هذا النوع من الغضب المقدس الغير أناني؛ الغضب الذي هو صورة من صور الغيرة على مجد الله وخير الآخرين، هو الذي يحرضنا عليه الرسول بولس قائلاً: ««اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا» (أف 4 :26). ويا له من درس خطير لنا نحن المؤمنين أن نهتم بمجد الله وكرامة بيته، وبصالح قطيعه، وبخير النفوس الغالية التي مات المسيح من أجلها.
ثانيًا: نوع غضب المسيح؟
إننا نعلم من الرب يسوع المسيح كيف يجب أن يكون الغضب في حياة الرجل القوي المالك روحه (أم 16 :32 ؛ 25 :28)، لأن كثير من غضبنا هو الضعف بعينه لا القوة. هو الصياح والصراخ وحدة الطبع وسوء الخلق وجموح العاطفة التي تعجز عن السيطرة عليها. وكثير من غضبنا قاس لا يلين ولا يرحم، ومُرّ لا أثر فيه للرقة والعذوبة، وحاقد لا يغفر ولا ينسي.
ولكن ماذا عمل الرب يسوع المسيح عندما غضب؟ إنه «لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ» (إش 42 :2‚3). نعم، لقد غضب «سَيًدي» في مناسبات مختلفة، ولكنه – تبارك اسمه – لم يُخطئ قط في غضبه. فيا للكمال!!... ويا للجمال!!
ولقد كان غضب الرب دائمًا مقترنًا بالحزن. إن حزنه على الخطاة كان يمضي جنبًا إلى جنب مع غضبه على خطيتهم. والغضب الذي شعر به إزاء الخطية كان دائمًا مقترنًا بالإشفاق والعطف نحو الخطاة الذين ارتكبوها، ولم يكن في دخيلة نفسه أية كراهية شخصية.
ففي مرقس 3 :5 نقرأ ««فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ». لقد نظر إليهم بغضب مقدس، ولكن خلف هذا الغضب كان هناك حزن شديد في قلبه لقساوة قلوبهم التي ظهرت في عدم المبالاة لحاجة الإنسان المسكين ذي اليد اليابسة. ولقد نطق الرب بثمانية ويلات خطيرة على أولئك القادة الدينيين الذين أضلوا شعبه وقادوهم إلى رفضه، وأعلن أن الدينونة تنتظرهم، هم وأتباعهم (مت 23 :13-36)، ثم صرَّح بالحكم النهائي على أورشليم المدينة المحبوبة (مت 23 :37-39). ولكن كم كان قلبه مفعمًا بالحزن المقدس، فقد بكى عليها عند إقباله إليها (لو 19 :41-44). وما زالت هذه هي مشاعره نحو الخطاة الذين يموتون في خطاياهم.
وإن غضب الرب لا يتعارض مع محبته واستعداده الدائم للصفح والغفران. بل إن غضب المسيح هو الوجه الآخر لمحبته. فإن المحبة الصحيحة هي التي تغار للحق ولا تتساهل مع الشر. إنها «لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ» (1كو 13 :6). ولا يليق أن تكون المحبة على حساب حق الله وكرامة بيته، فإن المحبة في هذه الحالة لا تكون محبة صادقة، بل رياء. بل إن المحبة القوية كالموت هي التي تنتج الغيرة القاسية كالهاوية (نش 8 :6). أفلا نرى في محبة الرب يسوع المسيح لهيب نار متقدة وغيرة لا يمكنها أن تتحمل أية إهانة تلحق مجد أبيه وبيته. وهذا ما حدث عند زيارة اللاب يسوع للهيكل في يوحنا2 فعندما «صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ. فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (يو 2 :13-17).
لقد كان غضب الرب موجَّهًا ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه، ولكنه لم يخطئ في غضبه. والمرء عادة عندما يغضب لا يكون متمالكًا لنفسه، ولربما يندفع إلى قول أو فعل خاطئ. لقد غضب موسى عند ماء مريبة لما رآه في الشعب، ولكنه لم يتصرف حسنًا وأخطأ إذ فرط بشفتيه (عد 20 :9-13 ؛ مز 106 :32‚33). لكن «رَبِّي وإلهي» لم يكن كذلك، فلا ترى منه أبدًا تهورًا أو اندفاعًا. حاشا! لقد لاحظ التلاميذ غيرة الرب، فعندما رأى الشر لم يسكت، لكننا يمكننا أيضًا أن نلاحظ حكمته واتزانه. ولاحظ كيف تعامل «سيَّدي» مع المشكلة:
لقد صنع سوطًا من حبالٍ، لكنه لم يضرب به أحدًا، بل طرد به الجميع – بدون استثناء – من الهيكل.
وبالنسبة للغنم والبقر، طردها، ولا خطورة من ذلك.
ودراهم الصيارف كبَّها. وهذه يمكن جمعها بسهولة.
أما بالنسبة للحمام، فإنه قال للباعة: « ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا!» ولو فعل أكثر من ذلك لكان ممكن للحمام أن ينزعج ويطير بعيدًا ويستحيل جمعه ثانية ويضيع على أصحابه.
يا للروعة!! ويا للجمال!! ويا للكمال!!
هذا هو الرب يسوع الوديع الحكيم حينما يغضب!
ما أروعك يا سَيِّدي!
ما أروعك في وداعتك وتواضعك!
وما أروعك في غضبك وغيرتك!
وما أروعك في حكمتك واتزانك!
أيها الأحباء... إن الطمع الذي أفسد هيكل الله في أورشليم، قد دخل أيضًا إلى هيكل الله الروحي في المسيحية، بنتائجه المدمرة. وها المُعَلِّمُونَ الكَذَبَةٌ – وما أكثرهم في هذه الأيام « يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ... وهم في الطمع يَتَّجِرُونَ بكم بأقوالٍ مُصنَّعةٍ» (2بط 2 :1-3)، وهم «يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ» (1تي 6 :5).
نعم، إنه يليق بنا أن نغضب، وكلما تمكنت فينا محبة المسيح وصفات النبل والكرامة المسيحية الحقيقية، كثرت حالات غضبنا، وخاصة في هذه الأيام الأخيرة الصعبة. إنما ليكن هذا الغضب على مثال غضب المسيح. فاغضب ما شئت يا عزيزي المؤمن، بشرط أن تكون مثله في غضبك.
فايز فؤاد

19 أكتوبر 2013

الغضب


الغضب ليس دائما خطية، ينبغي أن نتحقق و نسأل انفسنا هذا السؤال "هل افعل حسنا أن غضبت؟" من المحتمل أن تكون الإجابة "نعم". كثيرا ما يكون الغضب اهوج مجنون، ولكن أحيانا يكون "نار إيليا من السماء". 
الغضب الجيد:
عندما نكون غاضبين من الخطيئة، لأن من الخطأ أن نرتكب ضد إلهنا الرحوم الكريم الخطية و لا نغضب من انفسنا. الخطيئة شيء كريه وبغيض، الله نفسه "يسخط في كل يوم" على الشرور و ايضا "غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس"، كما انه مكتوب "اغضبوا و لا تخطئوا".
الغضب الخاطئ:
اذا كان غضبنا ليس له مبرر، او لامور تافهة فانه يكون خطية "من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم"(مت5).
انواع الغضب:
الغضب نوعان غضب داخلي في الفكر و القلب، و غضب خارجي يكون فيه عدم ضبط للنفس.
احيانا يكبت الانسان غضبه و يصمت، ليس بسبب فضيلة ضبط النفس و انما لاسباب اخرى، منها:
  • بسبب الخوف من الشخص الذي أخطأ إليك، لأنه أقوى منك.
  • وقد يكون سبب سكوتك هو الانتظار ريثما ترد أو تنتقم لنفسك فيما بعد.
  • يوجد شخص أعصابه قوية جدًا، يقف في منتهى البرود والجو يغلى، دون أن يغضب. ويستطيع بصمته وبروده أن يثير الطرف الآخر، ويجعله يغضب اكثر.
 علاج الغضب:
الصفح، ولا يكفي فقط أن تصفح، وإنما بالأكثر أن تنسى.

18 أكتوبر 2013

تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ


يُشار بالذهب إلى العظمة والجلال (دا 2: 38؛ رؤ4: 4؛ 14: 14). وإلى كل ما هو رفيع القدر عظيم القيمة (أم3: 14؛ 8: 10،19؛ 16: 16؛ 25: 12). كما إلى الثبات والرسوخ (نش5: 11،14،15؛ أي23: 10؛ ملا3: 3؛ 1بط1: 7؛ رؤ3: 18). وكل هذه الصفات لا نجد اكتمالها إلا في شخص الرب يسوع المسيح.

والذهب يُشير أيضًا إلى لاهوت ربنا يسوع المسيح، وأيضًا إلى البر الإلهي كما هو ظاهر في غشاء التابوت وفي غطائه. فالتابوت من أوضح الرموز للرب يسوع المسيح، الله الظاهر في الجسد (يو1: 14؛ 1تي3: 16). لقد كان مصنوعًا من خشب السنط ومُغشّى بذهبٍ نقي من الداخل والخارج.

وخشب السنط هو الخشب الذي ينبت في البرية، وهو خشب غير قابل للفساد، لذا فهو رمز مناسب لناسوت الرب يسوع المسيح الكامل، فهو - تبارك اسمه - «لم يفعل خطية» و«لم يعرف خطية» و«ليس فيه خطية» (1بط2: 22؛ 2كو5: 21؛ 1يو3: 5) وهو - له كل المجد - «قدوس الله» (لو1: 35؛ 4: 34؛ مر1: 24) و«قُدُّوسٌ بلا شرٍّ ولا دنسٍٍ» (عب7: 26).

وشجر السنط يمكنه أن ينمو في تربة جافة جدًا، ولا تؤثر جدوبة الأرض في حجمه أو معدل نموه، وهذا يذكرنا بقول إشعياء النبي عن الرب يسوع المسيح: «نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ» (إش 53: 2).
والذهب النقي يُشير إلى لاهوت المسيح - له كل المجد - واتحاد خشب السنط مع الذهب النقي في تركيب التابوت يُشير إلى اتحاد الطبيعتين الإلهية والإنسانية في شخصه الكريم، الذي هو الله الحقيقي والإنسان الحقيقي؛ الله في كل ما هو الله، والإنسان في كل ما هو الإنسان ما خلا الخطية.

«وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ» (يو1: 1) اللاهوت
«وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا» (يو1: 14) الناسوت
«اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي3: 16) اتحاد اللاهوت بالناسوت في ذاك الذي
«فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كو2: 9).

والكيفية التي بها يتحد اللاهوت بالناسوت في شخصه المجيد هي فوق إدراك عقول البشر «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ» (مت11: 27؛ لو10: 22)، ولكن لنا أن نؤمن ونتمسك بما أعلنه الله لنا في كلمته عن شخصه العجيب الذي صار إنسانًا وكفَّر عن الخطية على صليب الجلجثة، ومع ذلك ففي اتضاعه وصيرورته إنسانًا ظل هو هو الله. وحقًا إنه «عمانوئيل... الله معنا» (مت 1: 23)
في فاتحة العهد القديم نقرأ عن الإنسان الذي خُلق على صورة الله، وفي فاتحة العهد الجديد نقرأ عن الله آتيًا في صورة الإنسان. الخالق جاء على صورة المخلوق منه «اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ»؛ الله في وسط البشر! نعم، إن الابن المولود من العذراء، والذي قُمِّط واُضطجع في مذود هو في ذات الوقت «الله القدير... أبو الأبدية... رئيس السلام» (إش9: 6). والذي دُعي اسمه «يسوع» هو الله المخلص وحده، وهو موضوع إيماننا، وهو غرض تعبدنا.
فبحق إنه التُفَّاح مِنْ ذَهَب...


وهو مِثْلَ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُقَدَّمٌ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ:

الفضة تشير إلى الرب يسوع المسيح في قيمة فدائه وكفارته. فنحن نقرأ صريحًا في كلمة الله عن «فضة الفداء» (عد3: 46-51)، وعن «فضة الكفارة» (خر30: 11-16). وفي إشعياء 52: 3 نقرأ هذا القول: «هكذا قال الرب: مَجَّانًا بُعْتُمْ (أو بعتم أنفسكم)، وبلا فِضَّةٍ تُفَكُّونَ (أي تُفدون)». ويعقب هذا الأصحاح الثالث والخمسون الذي يصور لنا عبد يهوه المبارك متألمًا ومائتًا، جاعلاً نفسه ذبيحة إثمٍ. وفي 1بطرس1: 18-20 نقرأ القول المبارك: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ».

فيا لروعة الإعلان الكامل! «الكلمة» الأزلي في جوهر ذاته وفي جوهر لاهوته وفي علاقاته الأقنومية، لما جاء ملء الزمان، صار جسدًا، ليقوم بعمل الفداء للبشر الخطاة. نعم، الكلمة الأزلي، الخالق في بدء الخلق، هو الذي اتخذ ناسوتًا ليصنع الفداء في الزمان.
وهكذا فإن التُفَّاح مِنْ ذَهَب (الرب يسوع المسيح في مجده الإلهي)، قُدِّمَ إلينا في مَصُوغٍ من فِضّةٍ (الفداء والكفارة). لأنه عندما يرسل الله ابنه إلى هذا العالم، وعندما يضحي الآب بهذه التضحية الرائعة وهي السماح لابنه الحبيب الوحيد أن يأخذ صورتنا، ويشترك معنا في اللحم والدم، وعندما يقبل ربنا يسوع المسيح أن يأتي إلى عالمنا هذا، مُخليًا نفسه من هالة المجد، مستترًا في الناسوت الذي تهيأ له، وساترًا صورة الله تحت صورة العبد، فل يمكن أن يكون لهذا إلا غرض واحد وهو الفداء (غل3: 13،14؛ 4: 14،15)، ولا يمكن أن يكون لهذا إلا معنى واحد وهو الخلاص
(رو5: 9)، ولا يمكن أن يكون له إلا باعث واحد وهو محبة الله العجيبة الفائقة المعرفة (أف3: 19).

إن الله لكي يرسل إلينا رسالة القضاء والقصاص القريب الوقوع، ليس هو في حاجة لإرسال ابنه، أيّ ملاك كان يكفي لهذا العمل، وأيّ عبد يكفي لإعلان مثل هذه الرسالة. موسى كان يقدر أن ينطق بها (يو1: 17)، بل إن ضميرنا ذاته هو رسول كافٍ لمثل هذه المهمة (رو2: 15). ولكن، في ملء الزمان أرسل الله ابنه الكلمة المتجسدة، ليس ليُعلّم أو يعظ أو يعلن القضاء والدينونة، وليس ليأتي كما يأتي ملك لزيارة رعاياه في أكواخهم، ناطقًا لهم بكلمات رقيقة أو إنعامات ملكية، ثم يتركهم ناسيًا إياهم، كلا وألف كلا. الله أرسل ابنه ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت20: 28؛ 1تي2: 6؛ تي2: 14)، ولكي يطلُب ويُخلِّص ما قد هلك (لو19: 10)، ولكي ما يدعو الخطاة إلى التوبة (مت8: 13)، ولكي ما يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد (عب2: 10)، ولكي ما تكون لنا الحياة الفُضلى (يو10: 10)، ولكي ما نستطيع الآن أن نذهب إلى العالم أجمع لننادي ببشارة الخلاص المفرحة للخليقة كلها (مر16: 15).

فيا ليت مجد الرب يسوع المسيح الإلهي (الذهب)، وكمال عمله الكفاري على الصليب (الفضة)، يكونان هما موضوع رسالتنا إلى العالم أجمع، ويا ليت لسان حال كل منا «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1كو2: 2)؛ فتكون كلماتنا كلها مثل تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ.

فايز فؤاد
منقول من منتدى  http://www.truth-way.net

التوبة - الشيخ الروحاني

التوبةُ تجعل الزناةَ بتوليين، كما تنظف الوعاء الذي علاه الصدأُ. 
إنها من الماخورِ إلى البريةِ تجتذبُ لعملِ الملائكةِ، والمضيئون الذين حقَّروها تركتهم، فنزلوا إلى الجحيم السفلي. 
هي تَدخلُ إلى مخادع الزانياتِ، وتجتذب الزناة، وتلدهم من حضنها بتوليين للمسيحِ. 
تردُّ الذين انكروا إلى الرسوليةِ (بطرس)، والرسل الذين نزعوها لبسوا الظلمةَ (يهوذا الخائن). 
إنها لِباسُ العالي، وللابسيه تُلبس مجدَ يسوعِ رداءًا. 
هي تجتذبُ من الطرقاتِ إلى الملكوتِ، ومن بين السياجات تُدخل إلى العرسِ. 
إنها تصونُ من السوءِ المضيئين، وتجعلُ العميان مبصرين. 
هي تقلع الشجرةَ التي أثمارُها سمُّ الموتِ، وتُغرس شجرةُ الحياةِ بفردوسنا. 
هي حاملةٌ براحتِها طيبات النعمةِ، والذين نتنوا بالنجاسةِ إن قبلوها تطيب نفوسهم. 
إنها قائمةٌ ببابِ العريس السماوي، وكلُّ من عبر بها استقبلته ووضعت على رأسه إكليلَ العرسِ، وكلُّ من انحنى قدامها، جعلته متكئاً في الحَجلةِ.
بيدها وضعت مفاتيحَ ملكوت السماواتِ، فكلُّ من أحبها وعشقها جعلته أميناً.

***
هي هي أمُّ النورِ، وكلُّ من وُلد منها، أنبتت له أجنحةً من نارٍ، ومع الروحانيين يطيرُ إلى العلا،
وكلُّ من نَتَفَ الصيادون ريشَه، واستتر تحت أحضانها أياماً قلائل، أخذ منها ريشاً طياراً نارياً، أفضل وأخف من الأول.
هي هي ملحمةُ الطبِ السماوي، ومن وضعها على وجههِ برئ لوقته،
لا تقطع بموسى ولا تُصعِّب الأوجاعَ بالكي.
بالرحمةِ مخلوطٌ أدويتها، وباللين تجبرُ الانكسارَ.
سمُّ الموتِ واللهو والشغب، هذه بيديْ الشيطان، أما التوبةُ فهي ترياقُ الحياةِ بيد اللهِ.
وكلُّ من سبق وشرب من كأسِ القاتلِ، يتقدم ويشرب من كأسِ المحيي للكلِّ، فيعيش بلا نهايةِ.

12 أكتوبر 2013

ليضئ نوركم قدام الناس

ما هو الهدف من النور؟
ليس الجواب معقداً. النور يطرد الظلمة. هل سبق أن اختبرت مرة ظلمة حالكة ودامسة؟
عندما تعيش في الظلام، فأنت لا تفقد فقط بصيص النور، إنما تجهل مكان منزلك أيضا.
هذه هي حال الأغلبية في هذا العالم. يولد بعضهم ويترعرعون ويموتون في ثقافات لم تدرك بصيصاً من النور والرجاء. تخيل ذلك!
عندما تصعقني هذه الحقيقة، أجد نفسي في وضع لا أحتمل فيه الكثيرين من الناس المنشغلين فقط في إشعاع النور على أنفسهم. فهم يقيمون حفلات يسلطون فيها الأنوار بعضهم على بعض. أضواء كثيرة! مخزون فائض من النور! فيما يطلب منا يسوع أن نضيء العالم بأسره. أضئ نورك في الظلام؛ فهناك حاجة ماسة إليه. اصرف القليل من الوقت في عالمك المسيحي الصغير المضاء جيداً واصرف الكثير من الوقت هناك حيث الظلام!
لقد كانت هذه العبارة التي قالها {س. ت. ستاد} موضع تقديري وإعجابي لسنين مضت:

{يتمنى بعض أن يعيشوا في كنف الصوت المنبعث من مكان العبادة أو على رنين جرس الكنيسة، لكنني أريد أن أدير مكتب إنقاذ على بعد أمتار من باب جهنم}.

تقول بأن محيطك مظلم؟ يا لها من فرصة! أنت هو الشخص الوحيد ربما في عملك الذي تعمله وقد تعرفت بالمسيح المخلص؟ إنها فرصتك للكلام! أنت تمُلك النور! انتبه الآن... لا تصوب نحو زميلك ضوءاً قوياً يُعمي عينيه. إنه بحاجة إلى النور. إنما في الأمكنة المناسبة وبالكمية الملائمة.
قال ربنا يسوع؟ "لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل". لا يمكنك إخفاؤها ولو حاولت ذلك. نورك موضوع على الجبل {أعمالنا الحسنة} تصدح كالبوق. فقط عش حياة مختلفة. وهذا سيثير حيرة الآخرين ويجعلهم يتساءلون، لماذا أنت لا تفعل ما يفعلونه. إنهم لا يعرفون لماذا تتمتع بالسلام والهدوء. كذلك لا يعرفون لماذا أنت خال من القلق أو الغم. هم يجهلون السبب الذي يجعلك تبتسم أكثر مما تعبس، حتماً سيتوقون لمعرفته.
إن جاذبية النور أمر مدهش. فعندما تتواجد في مكان مظلم وتحمل ضوءاً واحداً، تتوجه كل الأنظار نحوه. فالنور هو الذي يهدي الملاحين طريقهم عبر البحار. وغالباً ما تحدد النجوم اتجاهاتهم على الرغم من ابتعادها عنهم سنين ضوئية هذا عددها. أما شعاع المنارة الذي يلوح عبر الأفق فهو يحدد الاتجاه. إنه يجذب الأنظار. يدعونا يسوع ألا نعقد الأمور بل بكل بساطة، {ليضئ نوركم}.
أليس هذا سهلاً؟
فقط دعه ينير. لا حاجة للطاقة الزائدة. لا حاجة لتصريحات علنية تقول فيها، {أنا أسير في النور}. أضئ نورك فقط.

ماذا سيرى الناس؟
قال ربنا يسوع إنهم سيرون {أعمالكم الحسنة}، هل من مثال على ذلك؟
سيسمعون منك الكلام اللطيف؛ ويتبينون ابتسامتك؛ ويلاحظون أنك تتوقف لكي تشكرهم؛ ويسمعونك تعتذر في حال أخطأت؛ ويشاهدون مساعدتك لهم عندما يواجهون صعوبة ما؛ ويعرفون أنك أنت من توقفت في الطريق لتمد لهم يد العون. إنهم حتماً سيرون أعمالاً تشهد عن حياة يسوع فيك، { لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات} (متى ١٦:٥).
ما أروع أن يأتي إلينا غير المسيحيين، وقد تحرك فضولهم لمعرفة سر ومصدر النور الذي نملكه.
فأنت عندما تضيء النور فأنت تؤثر في الآخرين. والتأثير كما يعرفه القاموس هو الفعل أو الإمكانية التي تولد تأثيراً، دون إجهاد ظاهر ومضنٍ، أو تلبيةٍ لأوامر وفرائض.

دعوني أنبه على ممنوعات ثلاثة:

أولاً: لا تبالغ. تذكر، لا تحاول جذب الأنظار نحو النور، فقط تصرف بعفوية. إن كنت متزوجاً، فأنت تقدم أفضل شهادة لهذا العالم المظلم إن أظهرت { زواجاً عاقلاً وسليماً}. أليس ذلك مدعاة للارتياح؟

ثانياً: لا تتراجع. عندما تحيا حياة الإيمان بعزم وثبات، فإنك تلفت انتباه الذين يعيشون في الظلام، وتوجد عطشاً في نفوس الذين يحيون حياة تافهة دون أمل أو رجاء. وعندما يقصدونك بغية الاستعلام والاستفسار تكون لديك الفرصة الذهبية لتخبرهم من هو مصدر النور.
تأمل في بعض النواحي التي أحدث فيها مسيحيو النور فرقاً في هذا العالم: إبطال العبودية والرق، إصلاح السجون، العناية الطبية، مساعدة المدمنين، تأسيس المدارس والمؤسسات التربوية، تقديم بدائل للإجهاض(وسائل تنظيم الاسرة)، مواجهة إساءة معاملة الأطفال، إنشاء ملاجئ الايتام، وهكذا.

ثالثاً: لا تقلق بشأن القليلين الذين يقاومون هذا النمط من الحياة فليس من إنسانٍ يرضي الجميع. لقد تراجع الكثيرين عن يسوع نفسه. (تذكر أنه كان الإنسان الكامل الوحيد الذي عاش على هذه الأرض، وعلى الرغم من ذلك صلبوه). حتى الأنبياء العظام والرسل تعرضوا للنبذ، والإهمال والاستشهاد. لا تقلق بشأن الأقلية التي ترفض وتقاوم النور.
إن من كانوا نوراً هم من يقود الناس للتقرب من الله. فكن أنت احدهم وانشر نورك أمام الناس فيروا أعمالك الحسنة فيمجدوا أباك الذي في السماوات
انا هو نور العالم.من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة. يو 8: 12 
الاب انتوني كونيارس

اقوال مارتن لوثر كنج

مارتن لوثر كنج أمريكي من أصول إفريقية، وناشط سياسي إنساني، من المطالبين بإنهاء التمييز العنصري ضد بني جلدته، في عام 1964 م حصل على جائزة نوبل للسلام، وكان أصغر من يحوز عليها. اغتيل في الرابع من نيسان/أبريل عام 1968، اعتبر مارتن لوثر كنج من أهم الشخصيات التي دعت إلى الحريه وحقوق الإنسان.

من اشهر خطاباته، خطابا بعنوان "لدي حلم" I have a dream

من اقواله المأثورة:
  • علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو الفناء معاً كأغبياء .
  • الإيمان هو أن تأخذ الخطوة الأولى حتى ولو لم تستطع رؤية الدرج كله .
  • في النهاية لن نذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا.
  • الكراهية تشل الحياة، والحب يطلقها؛ والكراهية تربك الحياة، والحب ينسقها؛ والكراهية تظلم الحياة، والحب ينيرها.
  • قد يكون صحيحا أن القانون لا يمكن أن يجعل شخصا يحبني، لكن بإمكانه منعه من إعدامي زورا، وهذا في اعتقادي في غاية الأهمية.
  • لا تدع أحدا يجذبك لأسفل لدرجة أن تكرهه.
  • تبدأ نهاية حياتنا في اليوم الذي نصمت فيه عن الأشياء ذات الأهمية.
  • الفصل العنصري جريمة زنا محرمة بين الظلم والخلود.
  • عندما تكون على حق لا يمكنك أن تتطرف بما يكفي، أما عندما تكون على باطل فلا يمكنك أن تكون محافظا بما يكفي.
  • كل تقدم ثمين، وحل مشكلة ما يضعنا في مواجهة مشكلة أخرى.
  • الظلم في مكان ما يمثل تهديدا للعدل في كل مكان.
  • أعترف لكم بأن المرء إذا لم يكتشف شيئا بإمكانه الموت دفاعا عنه، فهو غير جدير بالحياة.
  • ليس من شيء في العالم كله أخطر من الجهل الصادق والغباء حي الضمير.
  • لقد تخطت قوتنا العلمية قوتنا الروحية، فنحن نملك صواريخ موجهة ورجالاً غير موجهين.
  • ليس السلام هدفا بعيدا نسعى إليه، بل كذلك وسيلة نصل بها إلى هذا الهدف.
  • التراجيديا الكبرى ليست الاضطهاد والعنف الذي يرتكبه الأشرار، بل صمت الأخيار على ذلك.
  • الحب هو القوة الوحيدة القادرة على تحويل عدو إلى صديق.
  • نحن لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا.
  • الشغب لغة من لا يُسمَعون.
  • يجب أن تكون الوسيلة التي نستخدمها بنفس نقاء الغاية التي نسعى إليها.
  • ليس المهم طول حياة المرء، بل في نوعيتها.

تدبير الله


حينما نراجع التاريخ، نجد ان الدفاع عن قضية الحق قد اؤتمن عليه - لا مرة و لا مرتين، بل اكثر - جماعة قليلة جدامن البشر الضعفاء الذين خيل لهم بان القضية خاسرة. لقد وقف ايليا النبي وحيدا يرثي لحالته لانه بقى وحده، اسمعه يقول "وبقيت انا وحدي".. هكذا كان الحال حين وقف اثناسيوس وحيدا ضد بدعة اريوس. و هكذا كان الحال عند بدء اثارة موضوع الغاء تجارة العبيد. لقد طالما بين الله انه لا يميل الى استخدام جحافل الجيوش الجرارة، لكنه يفضل اختيار جدعون الذي انقذ شعب اسرائيل من قبضة المديانيين، ولبرفورس الذي نادى بالغاء الاتجار بالرقيق. و تاريخ الكنيسة هو بجملته تاريخ حياة الافراد. بواسطة لفنجستون و جدسون و كاري اتت ممالك برمتها للمسيح..   
اذن، فان كنت تظن انك وحيدا فلا تيأس. هل تظن انك صغير؟ ثق ان الله بجوارك. هل تظن انك بوغاز ضيق؟ ثق بأن "المحيط" الاعظم للاهوت الله ينتظر حتى يستخدمك لتوصيل ينابيع بركاته للعالم. ليست الاهمية في ماذا نقدر ان و لا نقدر ان نتممه من اجل الله. حينما يستخدم الله انسانا فانه يصير ابا لجمهور كما صار ابراهيم ابا لاسرائيل. و الشرط الوحيد هو حلول الله فينا و معنا و بنا. افتح كل كيانك لله لانه على وشك ان "يجعل خرب صهيون كبرية عدن و باديتها كجنة الرب. الفرح و الابتهاج يوجدان فيها. الحمد و صوت الترنم"(اش51: 3)
ف. ب. ماير

10 أكتوبر 2013

زائر في منتصف الليل


ميخا صانع نعال يحتل ركنا في السوق شغله اكثر من عشرين عاما. زبائنه كلهم يدعون الفقر، ان استطاعوا اصلاح نعالهم بغير اجر لفعلوا.
مرة و بينما ميخا واقف بباب بيته يقرعه منتظرا من يفتحه له حتى كان يافث هو الاخر قد جاء على دابته عائدا من مخازنه اذ كان يعمل تاجرا للغلال. و ترجل يافث و قصد باب بيته هوالاخر ليقرعه، و هو يلقي بالتحية على ميخا..
-          طاب يومك يا يافث.. اعائد انت من عملك؟
-          نعم كما ترى.
-          كيف كان يومك؟
-          نشكر الله الذي يقيتنا و يدبر معيشة عباده..
-          ميخا. الان تذكرت. حذائي يحتاج الى نعال جديدة..
-          اصلحهما لك يا يافث..
-  كانت راعوث قد فتحت الباب لزوجها، وقالت له: استرح ريثما اتيك ببعض الماء لغسل قدميك.
-          لم تمر دقائق حتى دق الباب و صاح من خلفه يافث:
-          - ميخا. احضرت لك النعال.
قام ميخا من مجلسه متثاقلا. و فتح لجاره و دعاه للدخول. و تنحنح يافث و هو يخطو للداخل معلنا قدومه. و مد يافث يده بالنعلين، و قلبهما ميخا في يديه و هو صامت..
قال يافث و هو يخطو نحو الباب ليخرج دون ان ينظر الى ميخا ..
-          كم ستطلب مني لقاء اصلاح النعال؟
-          هذا عمل نصف يوم. اضف الى ذلك الخامات. سأقبل دينارا..
-          كثير..
-          اطلب عادة دينارا و نصف. و لانك جاري جعلته دينارا..
-          ليكن. اتقن عملك و سأعطيك الدينار..
***
الرب يسوع المسيح لازال يتحدث من حوله الوف، سمح الجبل مغطى بالناس، رجال.. اطفال .. نساء. اختار الرب يسوع المسيح مكانا عاليا كي يراه الكل، من فوقه يتحدث، تنساب كلماته انسيلب النهر في ارض عطشى، يبدو في ردائه الابيض كأنه الوحيد الذي يرتدى رداءا ابيض..
الصمت وحده هو الذي يتحدث، الاذان مرهفة، و الرقاب ممدودة نحوه، و العيون مثبتة عليه..
الساعات تمر، و القوم ما زالوا في اماكنهم، بعضهم قد افترش العشب و البعض اختار الجلوس على اعالي الصخور.. الرب يسوع المسيح ما زال يتحدث. تلاميذه من حوله كغروس الزيتون، ينصتون كالجمع. بطرس يجلس الى جوار الرب عاقدا اصابع يديه، راخيا ذراعيه على حجره و نظره مسلط الى ما خلف الجموع حيث مياه بحر الجليل تمنحه فرصة التأمل، اما يوحنا فقد سلط عينيه و فكره على السيد و قد مسّ بسبابته شفتيه متفكرا. الذي الى جوار يوحنا هو توما، عيناه تتسعان اندهاشا للقول بين الاونة و الاخرى و قد مدّ قامته في جلسته نحو الرب حتى لا تضيع عن اذنه كلمة.. و كان هناك اندراوس و ابن زبدي الاخر و اخرون.
الرب يسوع المسيح ما زال يتحدث، مالت راعوث على اذن زوجها و همست:
-          ميخا، نذهب..
ادار ميخا وجهه نحوها و لم يجب كأنه لم يفقه ما تطلب، ثم عاد و التفت

قورح الغني و لعازر المسكين

انا لعازر
صنعت لنفسي مظلة من رث للثياب و افترشت الارض على مقربة من قصر عظيم. سبحان الهي مغير الاحوال. كان مسكني هناك داخل هذا القصر الكبير اذ كنت طباخا لقورح فاصبحت بلا مأوى بسبب قروحي..
يُعرف عني طيبة القلب ! اعرف عن نفسي طيبة القلب، سمّه ان شئت ضعف القلب. لم ارد ّ احدا في حياتي خائبا. من نافذة المطبخ هذه كثيرا ما القيت طعاما للعابرين من المعوزين. قورح كان يعلم و كان يرضى عما افعله. كان يحرص على الا يعكر مزاجي فيخرج طعامه من بين يديّ رديئا، قلّ نضجه، زاد نضجه، كاد يحترق، اختلت موازين خلطه. يا للايام، ألقاني الى الشارع رغم تأكيد الحكيم حاييم له بأن قروحي لا خشية منها و انها ستشفى مع الوقت. هكذا الدنيا يوم لك و يوم عليك. لولا طيبة حاييم و حنوه لهلكت جوعا.
و الحيوان، كلب قورح! يأتيني كل يوم و ذيله يهتز بالسرور الشديد و لسانه لا يكف عن لعق يديّ و قدميّ كما كان يفعل في القديم، لا زال يفعل ذلك الان غير متقزز من قروحي، يطيبها و يخفف من الامها بلعابه.
زودني حاييم من بيته - ليباركه الله - بغطاء صوفي سميك و فرش ووسادة، في البداية زودني ايضا بجرار طعام صغيرة من خير بيته ثم نسيني و كأن الذي اعطانيه سيظل محفوظا عندي بقية العمر. اخجل من ان اطلب منه طعاما. اهون عندي ان اسأل العابر الذي لا اعرفه من ان اسأل صديقا قديما و اذل امامه، عشت عمري مستورا شبعانا.
***
انا حاييم
يدعوني الناس حكيما فأنا طبيب. مداواة الناس مهنتي.. انها صورة لعازر المسكين التي تثقل ضميري. كادت قدميّ تتعثر فيه في الظلام و قد قاربت بيت قورح. صاح بي في ضعف:
- سيدي حاييم..
- لعازر؟
- نعم لعازر.
- كيف حالك الان؟
لا علم لي. لا زالت قروحي كما هي. بل هي تتسع.
- و الدهان الذي اعطيته لك؟
- استخدمته كما امرت مرتين كل يوم، و لا اقرب الماء من جسدي كما اوصيت، و احاول المستحيل الا احك جلدي.. لكن هذا الم ممض.
- اعتذر يا لعازر. لا استطيع فحصك الان فالضوء ليس بكاف. لكن الصبر.
- الصبر؟ هو صبر ايوب اذن!
- ليكن كصبر ايوب. تذكر ان الله تذكره بالخير في النهاية.
- لست ايوبا يا سيدي حاييم. ان سألتني عما اشتهيه فاني اشتهي الموت.
- لا. لن تموت. بل ستشفى باذن الله و ستعود الى وظيفتك.
رد و رائي في اسف:
- وظيفتي؟
و سألت الرجل عن طعامه فلم يجب. و تلى صمته نهران من الدموع سالا على خديه لم يمنعهما..