27 نوفمبر 2014

الزائر الغامض


صداقة ناشئة:
كان اوستين موظفا حكوميا في المدينة، وكان شخصا مرموقا، ثريا، يحترمه جميع الناس، ذاع صيته لاحسانه وبره، فقد تبرع بمبالغ ضخمة لملجأ الايتام ومأوى للفقراء. وكان يتصدق في السر ولم يعرف عنه ذلك الا بعد وفاته. كان رجلا يناهز الاربعين من عمره، تكاد ملامحه ان تكون صارمة. ولا يحب المحادثة كثيرا. وقد تزوج منذ عشر سنوات وله من زوجته التي كانت لا تزال شابة ثلاثة اطفال.
في امسية البارحة، كنت جالسا لوحدي في غرفتي واذا بطرق على بابي، وحينما فتحت الباب واذا بأوستين. رحبت به وجلسنا سويا. ثم ابتدرني زائري قائلا: لقد اصغيت باهتمام الى ما كنت تقوله منذ يومين. ارغب في التحدث اليك حديثا وديا، فهل لك يا سيدي العزيز ان تمن عليّ بهذه المكرمة؟
"انه امر يسرني سرورا عظيما واعتبره شرفا عظيما". قلت هذا وانا شاعر بالاضطراب الى حد ما.
ثم قال: انني ارى فيك رجلا ذا صفات خلقية خارقة لانك تجرأت على قول الحقيقة في ظروف تعرضك لازدراء الجميع.
فاجبته: لعلك تبالغ في تقديري.
لا، صدقني ان سلوك هذا السبيل في العمل اصعب مما تظن. هو مبعث تأثري ولها السبب وحده جئت اليك. واردف الرجل يقول: خبرني مشكورا اذا لم اكن متطفلا، ماذا كانت مشاعرك الحقة، في اللحظة التي غفرت فيها لعدوك، حذار ان ترى في سؤالي تفاهة، فعلى العكس هناك دافع يكمن وراء سؤالي، ربما اوضحته لك فيما بعد.
كان الرجل يتكلم، وانا احدق في وجهه. وقد شعرت لتوي بثقة تامة فيه، وفضولي عظيم لسماع قصته ايضا، اذ توقعت ان سرا غريبا يكمن في داخله.
واجبته قائلا: انك تسألني عن مشاعري لحظة الصفح عن عدوي، والافضل ان اسرد عليك تسلسل الاحداث من البداية ..
كان يصغي الى اقوالي وعينه تطفح حبا لي. فلما فرغت قال: ان هذا شيق للغاية وسآتي لاراك المرة تلو المرة.
واصبح يزورني كثيرا.. ولكنه لم يكن يحدثني عن نفسه كلمة مكتفيا باسئلته عني.
وذات مرة فاجأني بقوله: ان الحياة نعيم، ذلك ما امعن فيه الفكر منذ زمن، واستدرك يقول: انني بالفعل لا افكر بأي شئ فيما عدا ذلك. ثم نظر الي باسما وقال: انني اكثر منك اقتناعا بهذا الامر، وساخبرك السبب لاحقا.
اصغيت اليه وقدّرت انه يود اطلاعي على سر ما.
وتابع كلامه قائلا: ان نعيم السماء مخبوء في ذواتنا. ان في ذاتي جنة ولكنها مخبوءة ولو اردت لانكشفت لي منذ الغد وبقيت للابد.
كان يتحدث بتأثر عظيم. ثم اردف يقول: ان تطور الانسانية هو تطور روحي نفسي ولكي يبدل الناس دنياهم يجب عليهم ان يسلكوا نهجا روحيا جديدا. ولا يمكن ان يعاد توزيع الثروات بعدل بين الناس، اذ هم اعتمدوا فقط حسابات مصالحهم لان كل واحد سيظن ان حصته صغيرة، وبالتالي سيظل الناس متحاسدين معترضين..
كانت امسياتنا تتوالى، واحاديثنا هكذا مفعمة بالحماسة والاخلاص، واصبحت انظر الى زائري الغامض نظرة اعجاب.
و ذات يوم فاجأني يقول: اعلمت ان اهل المدينة يتهامسون بشأننا وهم في عجب من كثرة ترددي عليك.
وكثيرا ما كان يصوب بصره نحوي بنظرة طويلة نافذة، فأظن انه لابد محدثي الان بشئ. ولكنه كان لا يلبث ان ينخرط في حديث عادي مألوف.

المحب القاتل:
وفي ذات يوم وعلى حين غفلة من امري، وبعد حديث مسهب رأيته وقد امتقع وجهه. فقلت له:
ما خطبك؟ هل انت مريض؟
انني .. اعلم انني .. انا قاتل.
وجدت نفسي اسأل: ماذا تقول؟
فابتسم ابتسامة خفيفة وقال: لقد رأيت كم عانيت قبل هذا الاعتراف الاول. اما الان وقد اعترفت فأشعر بأنني قد خطوت الخطوة الاولى وسأمضي في طريقي.
لم استطع تصديق كلامه برهة طويلة، ولم اصدقه انذاك الا بعد ان زارني ثلاثة ايام متتالية، وقص عليّ تفاصيل قصته، وظننته في اول الامر مخبولا، ثم تيقنت اخيرا من صدق قوله. لقد كانت جريمته حقا بشعة.
لقد اغتال قبل اربعة عشر عاما ارملة صاحبة اطيان، وكانت شابة ثرية جميلة وقع في حبها واعلن لها ذلك وحاول ان يقنعها بالزواج ولكنها رفضت اذ كانت تحب رجل اخر كان ضابطا عالي الرتبة في الجيش وكان في مهمة خارج البلاد وهي تنتظر عودته القريبة. لذا فانها صدّت صاحبي ورجته ان يكف عن زيارتها. وبعد ان انقطع عن زيارتها، استغل معرفته بمداخل منزلها، فتسلل اليها من الحديقة وتسلق الى السطح مخاطرا بامكانية اكتشافه، ولكن كما يحدث في كثير من الاحيان فان الجريمة تنفذ.
ولم تتحول الشبهة اليه، ولم يكن احد يعلم بسر حبه للفتاة، فقد كان منطويا على نفسه محبا للصمت. وسرعان ما اتجهت الشبهات الى خادم للفتاة المقتولة، وتضافرت الظروف على هذا الخادم فاثبتت الشبهة. وكان العبد قد ترك العمل لديها قبل يومين من وفاتها، وفي اليوم التالي لوقوع الجريمة وجد منطرحا على الطريق وهو فاقد الوعي لفرط سكره. واتفق انه كان في جيبه خنجر ويده ملوثة بالدماء (التي قال عنها اثناء استجوابه فيما بعد انها نزفت من انفه).
والقى القبض عليه بتهمة قتل سيدته، ولكن الخادم اصيب بالحمى بعد اعتقاله باسبوع، ثم توفى في المستشفى وهو يعاني من غيبوبة. وهكذا انتهت القضية واقتنع القضاة والسلطات وجميع سكان المدينة بان الجريمة لم يرتكبها احد غيره.
اوضح لي زائري الغامض منذ اصبح صديقي، كيف انه لم يعاني في اول الامر من تبكيت الضمير. لقد شعر بالتعاسة امدا طويلا، ولكن ليس بسبب عذاب الضمير، بل لأنه قتل المرأة التي احبها، ففقد انسه بها الى الابد. اما الدم البرئ الذي سفكه فلم يكن ليهتم به او ليفكر به.
لقد اهتز لاعتقال الخادم بادئ الامر، غير ان مرضه ووفاته بددا قلقه واضطرابه، لان وفاته لم تكن كما بدا من اعتقاله وخوفه، بل لانه قضى ليلة كاملة في الطريق ملقى فاقد الوعى من السكر.
وقد سارع الى التبرع لاحد بيوت الايتام، وقد فعل ذلك ليريح ضميره. والمدهش انه ظل مرتاح الضمير فترة طويلة، كما قال لي. وقد ابدى نشاطا كبيرا في امور البر، فاسس ودعم مؤسسات الاحسان في المدينة، وانتخب عضوا في الجمعيات الخيرية. ولكن كثيرا ما راوده ذكرى جريمته.
واخيرا ارتد بخياله واعجب بفتاة جميلة ذكية، وسرعان ما تزوج منها، على امل ان يبدد هذا الزواج كآبته ووحشته. كان يظن انه ان دخل عتبة جديدة، وقام بواجبه خير قيام نحو زوجته واطفاله، فانه ينجو من ملاحقة ذكرياته جملة. ولم يتحقق المتوقع بل تحقق نقيضه. فانه حتى في الشهر الاول من زواجه اخذ الفكر يعذبه. وعندما اخبرته زوجته انها ستضع طفلا اضطرب وقال في نفسه: انني وهبت حياة، ولكنني سلبت حياة. وولد له اطفال فكثرت تساؤلاته: كيف تواتيني الجرأة على ان احبهم واعلمهم واثقفهم، وكيف انشئهم على الفضيلة؟ لقد سفكت دما". وكان اولاده على قدر كبير من الجمال فاذا تاق الى مداعبتهم، وجد نفسه يقول: انني لا استطيع النظر الى وجوههم البريئة التي تتجلى فيها الصراحة. انني لست اهلا لذلك.
واخيرا اخترق شبح ضحيته حجاب ضميره، وظل دائم التفكير في الحياة الفتية التي انتزعها من جسد الفتاة، وفي نداء الدم المسفوك طلبا للانتقام. واخذت الاحلام المزعجة توافيه كل ليلة. ولكنه كان رجلا جلدا صعب المراس، فاحتمل الامه زمنا طويلا وهو يقول في نفسه: لعل عذابي الخفي هذا يكون تكفيرا عن خطيتي". غير ان هذا الامل ايضا كان وهما، فان شقاءه كان يزداد على مر الايام.
ولقد كان الرجل يحظى باحترام المجتمع بسبب بره واحسانه. ولكنه يزداد تبرما كلما شعر بهذا الاحترام، حتى انه فكر في الانتحار.. واخيرا توصل الى قناعة راسخة انه ان اعترف بجريمته فستشفى روحه ويستعيد شعوره بالامن الى الابد.
فقلت: ولكنهم لن يصدقوك فقد انقضت على الجريمة اربعة عشر عاما.
لديّ براهين. براهين عظيمة، سأقدمها لهم.
وعندها لم اتمالك نفسي فبكيت وعانقته.
وعاد يتابع كلامه: ولكن زوجتي واطفالي. ان زوجتي ستموت من فرط حزنها. اما اطفالي فان لم يفقدوا منزلتهم واملاكهم فانهم سيظلون الى الابد ابناء رجل مجرم. واية ذكرى. اية ذكرى سيحفوظونها لي في قلوبهم؟
ولم اجب.
وعاد الى الكلام: ثم ما بالك بفراقي لهم . فراقي لهم الى الابد!
وظللت جالسا في مكاني وانا اتلو صلاة صامتة. واخيرا نهضت وقد ملأ الخوف نفسي. ثم نظر الى وتساءل: ما رأيك؟
قلت له: امض! اعترف بذنبك. ان كل شئ ينقضي ويبقى الحق وحده.      
وغادرني في لك الوقت ولكنه ظل يزورني لاسبوعين لاحقا، وهو يتأهب للحظة الحاسمة، دون ان تواتيه الشجاعة على تنفيذ ما اقدم عليه. لقد تألمت كثيرا لتردده. كان يأتي اليّ ويقول: انني اعلم انني سألج النعيم في اللحظة التي اعترف فيها. لقد انقضى عليّ وانا في لجحيم اربعة عشر عاما. انني اريد ان اتعذب. سأقبل جزائي واستأنف حياتي. ان الانسان باستطاعته ان يعيش حياته ويملأ الدنيا باعمال الخير، لكنه لا يستطيع تغيير الماضي. قد يدرك اولادي ما قاسيته فلا يلعونني.
فقلت له مواسيا: ان الجميع سيقدرون لك قرارك، فان لم يكن الان فغدا حتما.
خرج من عندي بمعنويات مرتفعة، لكنه عاد في الغد، كاسف البال، شاحب الوجه، وقال لي ساخرا: كلما زرتك نظرت اليّ نظرة متفحصة وكأنك تسألني قائلا: انه لم يعترف بعد! ولكن مهلا، لا تمعن في احتقاري. ان هذا الامر اصعب مما يخيل اليك. وقد احجم عنه جملة. انك عندها لن تشي بي. أليس كذلك؟
لم يكن فضولي يدفعني الى النظر اليه. وقد اشرفت على المرض من جراء ما كنت اشعر به من اضطراب، وكان قلبي يقطر دما، وكاد النوم يهجرني.
وتابع الرجل كلامه: لقد جئت توي من البيت وعندما خرجت من البيت صاح بي اطفالي: رافقتك السلامة يا ابتاه، عد الينا سريعا لتقرأ لنا "مجلة الاطفال". كلا، انك لا تفهم معنى هذا. ان الانسان لا يشعر بالام غيره.
وكانت عيناه تبرقان وشفتاه ترتجفان وفجأة ضرب المنضدة بقبضة يده فاهتزت الاشياء الموضوعة عليها. لقد كانت تلك هي المرة الاولى التي يفعل فيها هكذا. وهو الرجل المعروف بوداعته وهدوئه.
وعاد الى القول: ولكن هل ضروري ان اعترف؟ هل اعترافي واجب طالما لم يحكم على اي انسان بسبب جريمتي، ولم يرسل احد ما الى السجن بدلا عني. لقد مات الخادم بالحمى وكفرت انا عن الدم المسفوك بالالام التي تحملتها. ثم ان الناس لن يصدقونني. انهم لن يصدقوا براهيني. انني مستعد لاحتمال الالام طوال حياتي بسبب الدم الذي سفكته، اذا كان في ذلك نجاة زوجتي واطفالي. هل من العدل ان اشركهم معي في العقاب؟ اين هي الحقيقة ؟ هل يقدرها الناس؟ هل يحترمون دوافعها؟
فقلت في نفسي: حنانك يا رب. انه يفكر في احترام الناس، في لحظة كهذه! واخذتني الشفقة عليه، حتى لو انني لو تمكنت من مشاطرته مصيره لفعلت اذا كان في ذلك عزاءا له. وادركت انه عظيم الاضطراب. وايقنت بقلبي وعقلي معا كلفة هذا القرار الذي اتخذه.
ثم صاح بي: قرر مصيري انت!.
لم يسعفني صوتي، فهمست وانا اظهر الحزم: امض واعترف. وتناولت كتاب العهد الجديد عن المنضدة وفتحت له انجيل يوحنا الاصحاح الثاني عشر وقرأت الاية التي تقول: "الحق الحق اقول لكم، ان حبة الحنطة التي تقع في الارض ان لم تمت فهي تبقى وحدها، وان ماتت تأتي بثمر كثير". فقرأها ثم سكت برهة من الزمن واردف: كم هو سهل فرض هذه الايات على الناس. من كتبها؟ ايمكن ان يكون قد كتبها انسان؟
فقلت: نعم، كتبها انسان والروح القدس هو الذي املاها عليه.   
واخذت الكتاب وفتحته في مكان اخر فقرأ ما يلي: "مخيف هو الوقوع في يد الله الحي". قرأ هذه الاية وانطرح على كرسيه وجسمه كله يرتعد.
وقال: ان هذا الكلام رهيب، لا مناص من الاعتراف بانك اخترت الايات المناسبة. ثم نهض من مجلسه وقال: "والان وداعا فالارجح انني لن اتي اليك ثانية.. سنلتقي في السماء. فقد بقيت ان بين يدى الله الحي طيلة هذه السنين الاربع عشرة. وغدا سأتوسل الي هاتين اليدين ان تطلقا سبيلي.
ورغبت كثيرا في معانقته وتقبيله ولكني لم اجرؤ فقد كان منقبض الوجه. ومضى الرجل. وقلت في نفسي: رحماك يا رب، ما اقسى ذلك الذي سيواجهه. وجثوت على ركبتي امام ايقونة العذراء وبكيت لاجله وتشفعت بحاميتنا ومعينتنا، وبقيت نصف ساعة اصلي وابكي، وكان الليل يوشك ان ينتصف. وفجأة سمعت طرقا على الباب ولما فتحت وجدته امامي فتملكتني الدهشة.
وسألته: اين كنت؟
فقال: اظن انني نسيت عندك شيئا.. منديلي، اظن.. حسنا، لم انس شيئا، دعنا نتحدث قليلا.
وجلس وبقيت واقفا قربه.
ثم قال: اجلس انت ايضا.
فجلست، وبقينا على هذه الحالة دقيقتين، كانت نظرته اليّ ذات معنى. وفجأة ابتسم ثم نهض من مجلسه وعانقني وقبلني بحرارة.
 وقال: اذكر كيف جئت اليك مرة اخرى، هل تسمعني، اذكر ذلك!" ثم خرج، فقلت في نفسي: موعده الغد، سيفعلها.

اعتراف بعد طول تردد:
وصح ما توقعته. ولم اكن اعلم في تلك الليلة ان غدا هو يوم عيد ميلاده. كانت عادته كل سنة ان يدعو جمعا غفيرا من الناس للاحتفال بهذه المناسبة. وكان جميع افراد المجتمع الراقي في المدينة يذهبون الى منزله. وكان ذلك ما حدث في هذه المرة ايضا. وبعد تناول الغداء تقدم الى منتصف الغرفة وهو يحمل في يده ورقة ضمنها اعترافه موجهة الى رئيس منطقته.وتلى تصريحه بصوت عال، على الجمع المحتشد.
ولما فرغ قال: لقد فصّلت بنفسي ما فعلته كالوحش. واريد ان القى جزاء ما اقترفته يدي.
ثم وضع على المنضدة جميع الاشياء التي احتفظ بها مدة اربع عشرة سنة، وضع جواهر المرأة المقتولة التي سلبها اياها تمويها ودفعا للشبهات، والصليب، والعقد الذي انتزعه من عنقها وينتهي بعلبة صغيرة فيها صورة خطيبها ورسالتين.
عقدت الدهشة السنة الجميع، وانتابهم الخوف، ولم يصدقوا اقواله وظنوه مخبولا، ولو انهم جميعا اصغوا الى اقواله باهتمام عظيم. وبعد ايام قلائل كان جميع الناس على قناعة بأن الرجل التعيس صار مجنونا.
ولم تستطع السلطات القضية ان ترفض اثارة القضية من جديد ولكنها اخيرا اسقطتها من حسابها، مع كون المجوهرات والرسالتين مدعاة لاعمال الفكر. وقد قررت انه حتى ولو ثبت ان هذه الاثار تعود للقتيل، فانها غير كافية لاتهام الرجل، فهي قد تكون اعطته اياها بوصفه صديقا لها او سألته ان يحفظها لها.
ولقد علمت بعد خمسة ايام ان الرجل مريض وان حياته في خطر. لا استطيع ان اتكهن بعلة مرضه، فقد قيل انه كان يعاني من اضطرابات في القلب، ولكن علم ان زوجته ألحّت على الاطباء ان يتحرروا عن سلامة عقله، ولدى التحري قرروا ان مرضه كان جنونا في بداياته ولم افضح اعترافاته لي مع ان الناس تقاطروا عليّ يسألونني ايضاح الامر. وقد اردت ان اعوده ولكنني صددت عن بابه مدة طويلة وكانت زوجته اكثر الناس معارضة في ذلك.
لقد قالت لي: انك انت السبب فيما اعتراه من مرض. لقد اجهزت على عقله. انمواعظك افضت به الى هذه النتيجة، فقد كان يلازمك طوال الشهر المنصرم.
واخيرا سمحوا لي بزيارته، فقد الحّ على توديعي. فدخلت غرفته وادركت لتوي ان ايامه بل ساعاته اصبحت معدوة. كان ضعيفا شاحب اللون مرتجف اليدين، يلهث، لكن وجهه انطبعت عليه سيماء الرقة والسعادة.
فلما رآني قال: لقد انقضى كل شئ! اني انتظر مجيئك بشوق، فلماذا لم تأتي لزيارتي؟
ولم اعلمه بمنعي عن زيارته.
وقال: ان الله قد تلطف بحالي، وهو يدعوني اليه، وانا اعلم بأنني مفارق الحياة، ولكنني اشعر بالبهجة والراحة للمرة الاولى منذ سنوات طويلة. لقد شعرت بالنعيم في قلبي منذ اللحظة التي فعلت فيها ما كان ينبغي عليّ ان افعله. ان الناس لم يصدقوني حتى زوجتي والقضاة.وما اظن بأن اطفالي سيصدقونني ايضا. انني ارى في ذلك رحمة الله تتغمدني. انني سأموت، ولكن اسمي سيظل بالنسبة لهم غير ملطخ بالعار. والان اشعر ان الله قريب مني، وقلبي مفعم بالبهجة وكأنني في الجنة..
لم يستطع الرجل ان يواصل كلامه فأخذ يلهث كالمختنق وشد على يدي بحرارة، وهو ينظر الى نظرة تنم عن الحب العظيم ولم نتحدث طويلا فقد كانت زوجته تداوم الدخول واختلاس النظر الينا، ولكنه همس في اذني قائلا: هل تذكرت كيف جئت اليك في المرة الثانية عند منتصف الليل؟ لقد قلت لك ان تذكر ذلك. هل تعلم لم عدت اليك؟ لقد كنت اريد قتلك!
واجفلت.
ثم عاد الى الكلام: لقد خرجت من عندك فجبت الشوارع المظلمة على غير هدى وانا اغالب نفسي. وفجأة ابغضتك بغضا عظيما لم اقو على احتماله. وقلت، انه الانسان الوحيد في الدنيا الذي يضطرني للاعتراف. ليس ذلك بسبب خشيتي ان تشي بي فذلك لم يخطر ببالي ابدا. ولكنني قلت في نفسي: كيف استطيع ان انظر الى وجهه ان لم اعترف بجريمتي؟
وبعد اسبوع مات صاحبي. وشيعته المدينة بأسرها الى مثواه الاخير. واسف الجميع لذلك المرض الذي اهلكه قبل الاوان.    

دستويفسكي

قبل ان..



اليوم قبل أن تفكر فى قول قاس، فكر بالذين لا يستطيعون الكلام.
قبل أن تنتقد طعم طعامك، فكر بمن ليس لديه ما يأكل.
قبل أن تتبرم من زوجتك فكّر بمن يبكي إلى الله طلبا لرفيق الحياة.
قبل أن تعترض على الحياة فكر بمن سبقك مبكرا إلى السماء .
قبل أن تغضب من أطفالك وتشتكي من شقاوتهم فكر بمن يحب الاطفال ولكنه لا يستطيع الانجاب.
قبل أن تشتكي ان منزلك حالته متواضعة ؛ فكر في الناس الذين يعيشون في الشوارع بلا مأوى.
قبل ان تشتكي من طول المسافة التي تقودها بسيارتك، فكر بمن يقطعون نفس المسافة على أقدامهم.
وقبل ان تقول انك متعب وتشكو من عملك، فكر في العاطلين عن العمل والمعوقين وأولئك الذين يرغبون في وظيفة ....
قبل أن تفكر في توجيه أصابع الاتهام أو إدانة آخر تذكر أن لا أحد منا بلا خطيئة ونحن جميعا نعطي جوابا عما فعلناه امام خالقنا
عندما تضغطك الأفكار المحبطة ضع ابتسامة على وجهك وقدم الشكر لله أنك ما زلت حيا.
===
 الحياة هبة ... عشها ... استمتع بها ...
قدم حبا لاحد اليوم.
قدم حبا بافعالك وكلماتك.
الحب لا يعني ان نبقى منغلقين على انفسنا.
لذا قدم حبا للاخرين.

26 نوفمبر 2014

الحب يبقى

في يوم زفافي، حملت زوجتي علي ذراعي. توقفت السيارة أمام شقة الزفاف المكونة من غرفة واحدة. أصر رفاقي ان احمل زوجتي من السيارة علي ذراعي. لذلك حملتها الي بيتنا. بدا عليها الخجل. كنت قويا وسعيدا في ذلك الوقت.
كان هذا المشهد منذ عشر سنوات. كانت الأيام التي اعقبت ذلك بسيطة مثل كوب من الماء الصافي. اصبح لدينا طفل. ذهبت الى العمل وحاولت كسب المزيد من المال. عندما اصبح رصيدي في البنك يتزايد باطراد، بدأت المحبة بيننا تبدأ في الانحسار. وكانت زوجتي موظفة في جهة حكومية. كل صباح نغادر المنزل معا ونصل البيت تقريبا في نفس الوقت. لدينا طفل كان يدرس في مدرسة داخلية. بدت حياتنا الزوجية سعيدة بدرجة تثير الحسد. 
لكن الحياة الهادئة كانت أكثر عرضة للتأثر بالتغيرات غير المتوقعة. لقد دخلت امرأة اخرى الي حياتي. 


كان ذلك في يوم مشمس. كنت اجلس فى حديقة عامة - للترويح عن نفسي بعد عناء العمل - لحظة مجيئ ندي، بادلتني التحية. كنت اعرفها منذ ايام دراستنا الجامعية. وبعد محادثة ليست بالطويلة استرجعنا فيها ذكريات سنوات الدراسة، سرعان ما اصبح قلبي مرة أخرى مغمورا في تيار من الحب.  
قالت ندى، "أنت نوع من الرجال يشد انظار الفتيات". ذكرتني كلماتها فجأة بزوجتي.  عندما تزوجنا للتو قالت زوجتي "ان الرجال الناجحين مثلك، يكونون جذابين جدا للفتيات". حينما فكرت في هذا، أصبحت مترددا بعض الشيء. كنت أعرف أنني بهذا اخون زوجتي. ولكني لم أستطع تجنب ذلك. في هذه اللحظة، أصبحت فكرة طلاقي من زوجتي أكثر وضوحا في ذهني، على الرغم من أنها كانت لتكون شيئا مستحيلا بالنسبة لي في فترة سابقة. ومع ذلك، وجدت أنه من الصعب نوعا ما أن اتحدث مع زوجتي حول هذا الموضوع.
قلت: "لا يهم كيف اخبرها بذلك ، انها سوف تتأذى بشدة لفترة ثم تنسى".
بصراحة، لقد كانت زوجة جيدة. كل مساء كانت تقوم بإعداد العشاء. ثم نجلس سويا نشاهد التلفزيون. ثم اجلس أمام الكمبيوتر لبعض الوقت ولم تكن ندى تفارق خيالي في تلك الاوقات.
قلت ذات يوم لزوجتي بطريقة مازحة. "لنفترض أننا انفصلنا، ماذا ستفعلين؟" بدأت تحدق في وجهي لبضعة ثوان دون كلمة واحدة. يبدو انها كانت تعتقد أن الطلاق كان شيئا بعيدا جدا عنها. لم أكن أتصور كيف أنها سترد حالما تعرف أنني جاد.
عندما ذهبت زوجتي إلى مكتبي، خرجت ندى للتو. بدا تقريبا جميع الموظفين من نظراتهم متعاطفين مع زوجتي وحاولوا أن يخفوا شيئا بينما كنت اتحدث معها. ويبدو أنها قد لمحت هذا. ابتسمت بلطف للمرؤوسين لديّ. ولكن قرأت بعض الأذى في عينيها.
مرة أخرى، قالت ندى لي "نينج، طلّقها، ثم نعيش معا". أومأت برأسي موافقا. كنت أعرف أنني لا يمكن أن اتردد أكثر من ذلك.
عندما تناولنا العشاء انا وزوجتي، أمسكت بيدها وقلت: "أنا عندي شيء أقوله لك".  لم أكن أعرف كيف افاتحها. واخيرا اضطررت ان اخبرها بما كنت أفكر به. أريد الطلاق. وقد أثرت هذا الموضوع الخطير بهدوء. لم يبدو أنها تضايقت بسبب كلماتي، بدلا من ذلك سألتني بهدوء، "لماذا؟". صمتّ ولم اجب ، ولكنها تابعت: أنا جادة في رغبتي بمعرفة الاجابة. تجنبت سؤالها. هذه الاجابة المشهورة عن هذا السؤال (وهي الصمت) جعلتها غاضبة جدا. رمقتني وصاحت في وجهي. "أنت لست رجلا!". في تلك الليلة، لم نتحدث إلى بعضنا البعض. كانت تبكي. كنت أعرف أنها أرادت معرفة ما حدث لزواجنا. لكنني لا يمكن ان اعطيها إجابة مقنعة، لأن قلبي كان قد ذهب إلى ندى.
مع شعور عميق بالذنب، رحت اصيغ وثيقة الطلاق. ذكرت فيها حقها في ان تمتلك المنزل، وسيارتنا، وحصة 30% من الشركة التي امتلكها. نظرت إلى الوثيقة ثم مزقتها إربا. شعرت بألم في قلبي. أن امرأة كانت تعيش معي عشر سنوات ستصبح غريبة عني يوما. ولكن لم أتمكن من ارجاع ما قلته. أخيرا بكت بصوت عالي أمامي، كان هذا ما توقعت أن اراه. بالنسبة لي كان بكاءها في الواقع نوع من الراحة. ويبدو أن فكرة الطلاق التي كانت هاجس لي لعدة أسابيع اصبحت الان رغبة أكثر قوة وأكثر وضوحا.
في وقت متأخر من الليل، عدت الى بيتي بعد يوم حافل بالعمل واستقبال الزبائن. رأيتها تكتب شئ ما. كنت مجهدا فألقيت بنفسي على الفراش ورحت في نوم عميق بسرعة. عندما استيقظت، وجدتها وكانت لا تزال تكتب. ادرت ظهري ونمت مرة أخرى. لقد رتبت شروط طلاقها. انها لا تريد شيئا مني، ولكن كان من المفترض أن تعطي شهرا واحدا قبل الطلاق، وفي الوقت شهر يجب أن نعيش حياة طبيعية قدر ما هو ممكن. والسبب بسيط لها. ان ابننا سينهي إجازته الصيفية بعد شهر وانها لا تريد له أن يرى زواجنا مكسورا. سلمت لي صيغة الاتفاق، ثم سألتني، "نينج، هل ما زلت تذكر كيف دخلت غرفة الزفاف في يوم الزفاف؟" هذا السؤال اعاد فجأة إلينا كل تلك الذكريات الرائعة بالنسبة لي. أومأت برأسي بالايجاب، وقلت: "أتذكر". قالت "أنت حملتني بين ذراعيك." وتابعت "لذا، لديّ شرط، وهذا هو، ان تحملني علي ذراعيك كل يوم حتى يحين الطلاق. من الآن وحتى نهاية هذا الشهر، يجب أن تحملني للخروج من غرفة النوم إلى الباب كل صباح ". قبلت بابتسامة. كنت أعرف أنها اضاعت تلك الأيام الحلوة وتمنى نفسها بإنهاء زواجها بشكل رومانسي.
اخبرت ندى عن شروط طلاق زوجتي. ضحك بصوت عال واعتقد انه امر سخيف. "لا يهم ما تفعله من حيل، عليها مواجهة نتيجة للطلاق". قال بازدراء. كلماته جعلتني أشعر بعدم الراحة.
لم يحدث بيننا، أنا وزوجتي، أي اتصال جسدي منذ ان أعربت عن نيتي في الطلاق بصراحة. كنا نعامل بعضنا البعض كاغراب. لذلك عندما كنت أحملها للخارج في اليوم الأول، بدى كلانا على حد سواء اخرقا. ابننا صفق وراءنا، وقال:"بابا انك تحمل ماما علي ذراعيك". كلماته جلبت لي شعورا بالألم. من غرفة النوم إلى غرفة الجلوس، ثم إلى الباب، مشيت عشرة أمتار وانا احملها علي ذراعي.
اغلقت عينيها وقالت بهدوء. "دعنا نبدأ من اليوم، لا تخبر ابننا". أومأت برأسي موافقا، شاعرا بالضيق نوعا ما. أنا وخارج البيت ذهبت لانتظار الحافلة، بينما قدت السيارة إلى عملي.
في اليوم الثاني، كلا منا تصرف بسهولة أكثر من ذلك بكثير. انحنت على صدري. كنا قريبين جدا لدرجة مكنتني من ان اشتم رائحة العطر من ثيابها. أدركت أنني لم انظر الى هذه المرأة الحبيبة بعناية لفترة طويلة. لقد وجدت أنها لم تكن شابة مثل الاول، لقد كانت هناك بعض التجاعيد على وجهها.
في اليوم الثالث، همست لي: "حديقة المنزل دمرت تقريبا. كن حذرا عند مرورك فوق الحشائش هناك".
في اليوم الرابع، عندما حملتها بدا لي أن أشعر أن كنا لا نزال زوجين حبيبين. لقد كنت أحمل حبيبة قلبي عل ذراعي. أصبح تخيل ندى اكثر غموضا.
في اليومين الخامس والسادس، ظلت تذكرني باشيياء، مثل، اين وضعت القمصان التي قامت بكيها، وانه يجب أن اكون حذرا اثناء الطهي، الخ. كنت اومئ  رأسي بالايجاب. كان شعور الألفة أقوى. لم أكن اخبر ندى حول هذا الموضوع. شعرت أنه كان من السهل القيام بحملها عن السابق. ربما المران اليومي جعلني أقوى.
قلت لها: "يبدو ليس من الصعب أن احملك الآن". كانت تختار فساتينها. كنت أنتظر لحملها خارج غرفة النوم. حاولت ان تجد فستانا مناسبا ولكن لم يمكنها العثور عليه. ثم تنهدت قائلة: "لقد اصبح كل ما عندي من الثياب اكثر بدانة". ابتسمت. لكنني أدركت فجأة أنه كنت أتمكن من حملها بسهولة لأنها كانت أنحف ، وليس لأنني كنت أقوى. كنت أعرف أنها قد دفنت كل المرارة في قلبها. مرة أخرى، شعرت بالألم. لا شعوريا مددت يديّ امسح على رأسها برفق. وجاء ابننا في هذه اللحظة، وقال:"يا أبي، لقد حان الوقت لتحمل أمي للخارج.". بالنسبة له، رؤية والده يحمل أمه كان جزءا أساسيا من حياته. اومأت الى ابننا بالاقتراب واحتضنته بقوة. ادرت وجهي، لأنني كنت أخشى أن أغيّر رأيي في اللحظة الأخيرة. حملتها علي ذراعي، ومشيت من غرفة النوم، الى خلال غرفة الجلوس، إلى المدخل. يداها طوقت عنقي بهدوء وبشكل طبيعي. أمسكت جسدها بإحكام، كما لو كنا قد عدنا ليوم الزفاف. لكن وزنها الذي صار أخف بكثير جعلني حزينا.
في اليوم الأخير، عندما حملتها علي ذراعي وأنا بصعوبة اخطو للامام. كان ابننا قد ذهب الى المدرسة. وقالت: "في الحقيقة أتمنى أن تحملني بين ذراعيك حتى نشيخ." حملتها بإحكام، وقلت: "كلانا، أنت وأنا، لم نلاحظ أن حياتنا كان ينقصها وجود مثل هذه العلاقة الحميمة".
قفزت من السيارة بسرعة دون قفل الباب. كنت أخشى أن أي تأخير يجعلني اغيّر قراري. مشيت الي الطابق العلوي. فتحت ندى الباب. قلت لها: "عذرا، ندى، أنا لن اطلق زوجتي. وأنا جاد في قراري" كانت تتطلع في وجهي، بدهشة. ثم لمست جبهتي، "انت لست محموما. أليس كذلك؟". ابعدت يدها عن رأسي. "عذرا، ندى. لا يسعني إلا أن أقول لك انا آسف".
أنا لن اطلق زوجتي. ربما حياتي مع زوجتي كانت مملة. لأننا لم نهتم بتفاصيل الحياة، وليس لأننا لم نعد نحب بعضنا البعض مثل السابق. الآن أنا أفهم أنه منذ كنت أحملها في المنزل، وأنجبت طفلنا، كان من المفترض أن احملها حتى نهاية عمري. لذلك أود أن أقول آسف لك ".
 يبدو ان ندى افاقت فجأة، فقد أعطتني صفعة مدوّية ثم صفقت الباب. مشيت الي الطابق السفلي وتوجهت إلى المكتب.
عندما مررت على متجر الأزهار على جانب الطريق، طلبت باقة لزوجتي. طلبت مني البائعة كتابة كلمات التهنئة على البطاقة. ابتسمت وكتبت: "سوف احملها لك كل صباح حتى نهاية عمري."